يقول تعالى - مخوفًا للمشركين المكذبين للرسول:- ( وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ ) أي: أمما كثيرة هم أشد من هؤلاء بطشًا أي: قوة وآثارًا في الأرض.
ولهذا قال: ( فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ ) أي: بنوا الحصون المنيعة والمنازل الرفيعة، وغرسوا الأشجار، وأجروا الأنهار، وزرعوا، وعمروا، ودمروا، فلما كذبوا رسل الله، وجحدوا آيات الله، أخذهم الله بالعقاب الأليم، والعذاب الشديد، فـ ( هَلْ مِنْ مَحِيصٍ ) أي: لا مفر لهم من عذاب الله، حين نزل بهم، ولا منقذ، فلم تغن عنهم قوتهم، ولا أموالهم، ولا أولادهم.
( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ ) أي: قلب عظيم حي، ذكي، زكي، فهذا إذا ورد عليه شيء من آيات الله، تذكر بها، وانتفع، فارتفع وكذلك من ألقى سمعه إلى آيات الله، واستمعها، استماعًا يسترشد به، وقلبه ( شَهِيدٌ ) أي: حاضر، فهذا له أيضا ذكرى وموعظة، وشفاء وهدى.
وأما المعرض، الذي لم يلق سمعه إلى الآيات، فهذا لا تفيده شيئًا، لأنه لا قبول عنده، ولا تقتضي حكمة الله هداية من هذا وصفه ونعته.
وهذا إخبار منه تعالى عن قدرته العظيمة، ومشيئته النافذة، التي أوجد بها أعظم المخلوقات ( السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ) أولها يوم الأحد، وآخرها يوم الجمعة، من غير تعب، ولا نصب، ولا لغوب، ولا إعياء، فالذي أوجدها - على كبرها وعظمتها- قادر على إحياء الموتى، من باب أولى وأحرى.
( فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ ) من الذم لك والتكذيب بما جئت به، واشتغل عنهم واله بطاعة ربك وتسبيحه، أول النهار وآخره، وفي أوقات الليل، وأدبار الصلوات. فإن ذكر الله تعالى، مسل للنفس، مؤنس لها، مهون للصبر.
أي: ( وَاسْتَمِعْ ) بقلبك نداء المنادي وهو إسرافيل عليه السلام، حين ينفخ في الصور ( مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ ) من الخلق .
( يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ ) أي: كل الخلائق يسمعون تلك الصيحة المزعجة المهولة ( بالحق ) الذي لا شك فيه ولا امتراء.
( ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ ) من القبور، الذي انفرد به القادر على كل شيء، ولهذا قال: ( إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ * يَوْمَ تَشَقَّقُ الأرْضُ عَنْهُمْ ) أي: عن الأموات .
( سِرَاعًا ) أي: يسرعون لإجابة الداعي لهم، إلى موقف القيامة، ( ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ ) أي: هين على الله يسير لا تعب فيه ولا كلفة.
( نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ ) لك، مما يحزنك، من الأذى، وإذا كنا أعلم بذلك، فقد علمت كيف اعتناؤنا بك، وتيسيرنا لأمورك، ونصرنا لك على أعدائك، فليفرح قلبك، ولتطمئن نفسك، ولتعلم أننا أرحم بك وأرأف، من نفسك، فلم يبق لك إلا انتظار وعد الله، والتأسي بأولي العزم، من رسل الله، ( وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ ) أي: مسلط عليهم إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ولهذا قال: ( فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ) والتذكير، [ هو ] تذكير ما تقرر في العقول والفطر، من محبة الخير وإيثاره، وفعله، ومن بغض الشر ومجانبته، وإنما يتذكر بالتذكير، من يخاف وعيد الله، وأما من لم يخف الوعيد، ولم يؤمن به، فهذا فائدة تذكيره، إقامة الحجة عليه، لئلا يقول: مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ
آخر تفسير سورة ( ق ) والحمد لله أولا وآخرًا وظاهرًا وباطنًا